منتدي الغريب يرحب بكم
عزيزي الزائر نحن سعداء بتواجدك هنا
يمكنك التسجيل في المنتدي
لتكون عضوا مشارك
نتمني لك التوفيق باذن الله
منتدي الغريب يرحب بكم
عزيزي الزائر نحن سعداء بتواجدك هنا
يمكنك التسجيل في المنتدي
لتكون عضوا مشارك
نتمني لك التوفيق باذن الله
منتدي الغريب يرحب بكم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدي الغريب منتدي اسلامي ...اجتماعي....ثقافي....ترفيهي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الامام الشافعي 2

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
afandy

عضو فعال


عضو فعال
afandy


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 1191
نقاط : 1488
تاريخ التسجيل : 21/12/2009

الامام الشافعي 2 Empty
مُساهمةموضوع: الامام الشافعي 2   الامام الشافعي 2 I_icon_minitimeالجمعة 26 مارس 2010 - 0:03

وكان الشافعي بارا بوالدته .. مستمعا لنصائحها وقد وجهته إلى فقه الإمام علي بن أبي طالب، ونصحته أن يلتمسه من تلاميذ ابن عباس وتلاميذ الإمام جعفر الصادق .. وكان مقاتل بن سليمان هو أعلاهم شأنا وأبصرهم بالقرآن وتفسيره بالحديث والفقه .. وقد توقف الشافعي وهو ينظر في تفسير القرآن عند آية: "وقد خاب من دساها" .. ولم يعرف معنى كلمة دساها، فلم تكن قد عرضت له من قبل. ولم يجد الكلمة فيما تعلم من لغة العرب. وخرج إلى ظاهر مكة يسأل فيها بطنا من هذيل، وهم أفصح العرب، فلم يجد عندهم جوابا.
وطاف على شيوخ الحلقات من أهل الأثر ومفسري القرآن، فلم يظفر بجواب شاف .. وهمه الأمر وغمه، فلاذ بأمه يسألها النصيحة فوجهته إلى مقاتل بن سليمان تلميذ الإمام الصادق وذهب الإمام الصادق وذهب الشافعي إلى حلقة مقاتل ابن سليمان فقال له مقاتل: دساها من لغة السودان "ومعناها" أغواها .. اكتمل للشافعي علم حسن بالقرآن والحديث وآثار الصحابة، وثراء لغوي يفتح مغاليق المعاني، وذوق أدبي يتيح له أن يدرك لطائف البلاغة وأسرار البيان.
وقال له أحد شيوخه: "آن لك أن تفتي".
ولكن الشافعي تهيب الفتيا، فما كان إلا شابا صغيرا في سن أبناء المفتين من أصحاب الحلقات في المسجد الحرام .. وهو بعد لم يحصل على كل ما يريد من فقه المدينة، حيث يشع علم الإمام مالك، ولا من فقه العراق حيث مازال صدى جليل من آراء الإمام الراحل أبي حنيفة يدوي في جنبات المسجد الكبير بالكوفة، وحلقات بغداد، وحيث مازال تلاميذه أبو يوسف محمد ابن الحسن وغيرهما يجادلون عن إمامهم ويضيقون إلى تراثه الجدلي.
ثم إن الفتى لم يعرف كما ينبغي فقه الأوزاعي بالشام، ولا فقه الإمام الليث بمصر .. هذا الفقه الذي اتسم بالتوفيق بين أهل الرأي وأهل الحديث، والذي يحترم الحزبين جميعا، يتميز بعمق الإدراك لروح الشريعة ومقاصد الشارع، ويواجه في يسر معجز كل ما يطرحه العصر من مسائل وقضايا. وقرر أن يرحل في طلب الفقه من كل مدارسه، كما رحل من قبل يلتمس الفصحى من خير منابعها.
وأستاذن أمه أن يرحل إلى المدينة ليدرس علي الإمام مالك فأذنت له .. كان الفتى إذ ذاك في نحو العشرين، خلبه مالك حين جاء إلى المسجد الحرام فألقى بعض الدروس، وأخذته هيبة مالك وحسن معرفته بالحديث. وعرف عن مالك أنه على الرغم من سماحته، صارم في عمله، لا يبيح وقته للناس، ولا يستقبل من يطرح باب داره خلال ساعات العمل أو الراحة .. ولكن الشافعي لا يريد أن يكتفي بحضور دروس مالك في المسجد النبوي، وهي مباحة للعامة، بل يريد أن يلزمه ليتلقى منه علمه، وليتاح له أن يسأله ويحاوره ..
ومالك لا يأذن بالحوار في دروسه ويطرد من حلقته كل من خالف تقاليد الدرس..‍‍!! ما السبيل إلى الإمام مالك إذن!؟ قرر الشافعي أن يحسن إعداد نفسه للقاء الإمام مالك .. فبحث عن كتابه "الموطأ" الذي أخرجه مالك منذ حين واضعا فيه كل فقهه وكل ما صح عنده من الأحاديث النبوية الشريفة. ووجد الشافعي نسخا من لكتاب ولكنها غالية الثمن، وهو رقيق الحال .. فاستعار الكتاب من أحد شيوخه في مكة وعكف عليه النهار والليل، حتى حفظ الكتاب، بحافظته المدربة التي تعود الاعتماد عليها منذ كان لا يجد ثمن الورق، ومنذ كان يدرس بالمكتب وهو صبي.
وزاده حفظ كتاب "الموطأ" شوقا إلى لقاء الإمام مالك وإلى صحبته..! وجهزته أمه للسفر إلى المدينة وباعت في ذلك بعض أثاث الدار .. إنها لهجرة في سبيل العلم فهي في سبيل الله .. ورأت أمه أن تسهل له لقاء مالك، فوسطت بعض أقاربها إلى والي مكة، ليعطي ولدها كتابا إلى والي المدينة، عسى أن يتوسط للشافعي مالكا ويلزمه. ويحكي الشافعي عن هذه التجربة بعد أن أخذ كتاب توصية من والي مكة إلى والي المدينة وإلى الإمام مالك.
قال الشافعي: "فقدمت المدينة، فأبلغت الكتاب إلى الوالي فلما قرأه قال: يا فتى إن مشيي من جوف مكة إلى جوف المدينة حافيا راجلا أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس. فلست أرى الذل حتى أقف على بابه. فقلت: أصلح الله الأمير. إن رأى الأمير يوجه إليه ليحضر. فقال: هيهات ليت أتي لو ركبت أنا ومن معي، وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجتنا..!
فواعدته العصر، وركبنا جميعا فوالله لكان كما قال. لقد أصابنا من تراب العقيق، (والعقيق حي بالمدينة يسكنه مالك) فتقدم رجل منا فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: (قولي لمولاك إني بالباب، فدخلت فأبطأت ـ ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام ويقول إن كانت لديك مسألة فأرفعها في رقعة يخرج إليك الجواب. وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف، فقال لها: قولي له إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة. فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي. فوضعته ثم إذا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار وهو شيخ طويل مسنون اللحية، فجلس وهو متطلس (يلبس الطيلسان) فرفع إليه الوالي الكتاب. فبلغ إلى هذا (أن هذا رجل يهمني أمره وحاله فتحدثه وتفعل وتصنع) فرمى الكتاب من يده ثم قال: سبحان الله. أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالرسائل؟!
فرأيت الوالي قد تهيب أن يكلمه. فتقدمت وقلت: أصلحك الله. إني رجل مطلبي "من بني المطلب) وحدثته عن حالي وقصتي .. فلما سمع كلامي نظر إلي، وكان لمالك فراسة فقال: ما اسمك: قلت محمد فقال: " يا محمد إنه سيكون لك شأن وأي شأن. إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية. إذا ما جاء الغد تجئ ويجئ ما يقرأ لك". فغدوت عليه ومعي "الموطأ" وابتدأت أن أقرأ ظاهرا (من الحافظة) والكتاب في يدي. فكلما تهيب مالكا وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: (يا فتى زد). حتى قرأته عليه في أيام يسيرة". ومنذ ذلك اللقاء عام 170 هـ لزم الشافعي مالكا حتى مات الإمام مالك عام 179 هـ.
لم يتركه الشافعي إلا ليزور أمه بمكة. أو ليقوم برحلة إلى إحدى عواصم العالم والفقه .. وكان يستأذن شيخه مالك بن أنس فإذا أذن له جهزه بزاد ومال ودعا الله له. وفي المدينة التقى الشافعي بمحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة وشيخ أهل الرأي في العراق، والتقى ببعض تلاميذ جعفر الصادق، وتعلم منهم بعض فقه الإمام الصادق وأقضية الإمام علي كرم الله وجهه .. وتعلم من مذهب الإمام الصادق أن العقل هو أقوى أدوات الاستنباط حين لا يكون نص. العقل وحده هو أداة فهم النصوص لا الاتباع ولا التقليد!
وتعلم من تلاميذ الإمام الصادق رأي الإمام في حقيقة العلم .. فالعلم ليس حفظ القرآن والحديث ومعرفة الآثار فحسب، ولكنه يشمل كل العلوم الطبيعة والرياضية التي تفسر ظواهر الكون وتكشف عن قدرة الخالق. وهكذا قرر أن يتعلم تلك العلوم الطبيعة والرياضية، فتعلم من خلال رحلاته علوم الكيمياء والطب والفيزياء وتعلم الحساب والعلوم التي تجري عليها التجارب وعلم الفلك والتنجيم وهو فرع من العلوم الرياضية. وتعلم الفراسة، ومارسها.
وقد تعرف إلى عدد من فقهاء مصر من تلاميذ الليث، وكان من عادتهم بعد الحج أن يزوروا المدينة ليصلوا في الحرم النبوي وليسمعوا لمالك. وقد أملى الشافعي "الموطأ" على بعضهم ونشأت بينه وبينهم صداقة انتفع بها عندما هاجر إلى مصر ومنهم ابن عبد الحكم. ولقد رأى يوما في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر فتى جميل الوجه نظيف الثياب حسن الصلاة، فتوسم فيه خيرا، وحدثه فعرف أنه من الكوفة بالعراق فسأله: "من العالم بها والمتكلم في نص كتاب الله عز وجل، والمفتي بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال: "محمد بن الحسن وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة": فقال الشافعي: "ومتى عزمتم تظعنون؟" فقال الشاب: "غداة عند انفجار الفجر".
وذهب الشافعي إلى شيخه ليستأذنه أن يرحل في طلب العلم، فقال له شيخه مالك: العلم فائدة يرجع منها إلى عائدة. ألم تعلم بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب؟". فلما كان السحر وانفجر، سار مالك مودعا تلميذه الشافعي عند محطة القوافل بالبقيع خارج المدينة. وصاح مالك يسأل عمن يؤجر راحلة إلى الكوفة، فقال له تلميذه الشافعي: "لم تكتري لي راحلة ولا شيء معك ولا شيء معي؟ "فقال مالك له" لما انصرفت عني البارحة بعد صلاح العشاء الآخرة، قرع على قارع الباب، فخرجت إليه، فسألني قبول هدية فقبلتها فدفع إلى صرة فيها مائة مثقال وقد أتيتك بنصفها وجعلت النصف لعيالي". وكان الطارق هو أحد تلاميذ الإمام الليث، حمله الليث هذه الهدية لصديقه الإمام مالك وكان الليث قد تعود أن يصل مالكا بالهدايا الثمينة والمال الكثير.
خرج الشافعي من المدينة وهو شاب في الثانية والعشرين، فوصل الكوفة بعد رحلة شاقة استغرقت أربعة وعشرين يوما، فاستضافه محمد ابن الحسن، وتحاور في الفقه، وحضر حلقاته وحلقات زميله أبي يوسف. وكتب الشافعي كل ما وجد عند صاحبي أبي حنيفة من فقه الإمام الأعظم، وعند ما ترك الكوفة كان معه من الكتب حمل بعير. ثم طاف في بلاد فارس، والتقى بشيوخها وجرت بينه وبينهم محاورات، ثم سافر إلى ديار ربيعة ومضر، وألم ببعض قبائل البدو، فأصاب ما عندهم من الفصحى .. وطاف في هذه الرحلة ببغداد وشمال العراق والأناضول وحران ثم سافر إلى بلاد الشام وزار أمه بمكة ..
وعاد بعد عامين إلى المدينة وقد تزود بكثير من المعارف وكان يسأل طوال الرحلة عن أخبار شيخه مالك، فعرف أنه قد اتسعت أرزاقه وأصاب الغنى، فقد أجرى عليه الخليفة راتبا كبيرا، ووصله بالأموال والهدايا الثمينة .. وقصد الشافعي الحرم النبوي، بينما هو يتهيأ للجلوس في المسجد في حلقة الإمام مالك، إذ فاح عطر المسجد فتهامس من في المسجد إنه مالك .. ورأى مالك يدخل المسجد وحوله جماعة يحملون ذيله حتى جلس على كرسيه الذي أعد له من قبل وعليه حشية ومن حوله الدفاتر. وبدأ مالك درسه فطرح مسألة على تلاميذه فلم يجبه أحد. وظل يطرح مسائل وما من مجيب.! فضاق صدر الشافعي، فنظر إلى رجل بجانبه، وهمس إليه بالجواب .. واستمر مالك يسأل والرجل يجيب بما يهمس إليه الشافعي فسأل مالك من أين لك هذا العلم؟ فقال الرجل: "إن بجانب شابا يقول لي الجواب". فاستدعى مالك ذلك الشاب فإذا هو الشافعي .. ولم يكن مالك قد استطاع أن يراه في زحام الحلقة، فرحب به مالك، وضمه إلى صدره، ونزل عن كرسيه وقال له: "أتمم أنت هذا الباب".
رضى مالك عن شرح تلميذه الشافعي، ولما انتهى الدرس، أخذه إلى بيته وأغدق عليه وحكى الشافعي لأستاذه عن كل ما تعلمه ولقيه في رحلته من طرائف. حكى له عن تجربته مع علم الفراسة، وكان مالك ينصح تلميذه ألا ينصرف إلى غير علوم الشريعة، وما يعين على الفقه بها وفهم النصوص واستنباط الأحكام، والاهتمام باللغة وآدابها، وحفظ أخبار العرب وأيامهم. وحفظ الشعر الجاهلي، لأن كل أولئك أدوات لفهم نصوص القرآن والأحاديث .. أما الفراسة ففي نفس مالك شيء منها..!
حكى الشافعي لشيخه مروحا عنه بعض ما صادفه مع علم الفراسة .. فقد مر في رحلته برجل يقف في فناء بيته، وهو رجل أزرق العينين بارز الجبين، وتأمل الشافعي ملامحه، وقال لنفسه: "إن علم الفراسة يدل على أن هذا الرجل لئيم خبيث. وكان الشافعي مجتهدا يلتمس مكانا يستريح فيه. قال الشافعي: "سألت الرجل هل من منزل؟" قال: "نعم". وأنزلني فما رأيت أكرم منه! وبعث إلى بعشاء طيب، وعلف لدابتي، وفراشي ولحاف، فقلت:
"علم الفراسة دل على غاية دناءة هذا الرجل وأنا لم أشاهد منه إلا خيرا. فهذا العلم باطل! ولما أصبحت قلت للغلام: أسرج الدابة، فلما أردت الخروج قلت للرجل: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فاسأل عن منزل محمد ابن إدريس: فقال الرجل أعبد أبيك أنا؟! أين ثمن الذي تكلفت لك البارحة؟! قلت: وما هو؟ قال: اشتريت لك بدرهمين طعاما، وأداما بكذا وعطرا بكذا، وعلف دابتك بكذا، واللحاف بكذا .. قلت: يا غلام أعطه فهل بقى شيء؟ قال كراء المنزل فأني وسعت عليك وضيقت على نفسي. فضحك مالك .. وأكمل الشافعي: فعظم اعتقادي في علم الفراسة ولم يجبه مالك بغير الضحكات .. وقلما كان يضحك!
عاد الشافعي من هذه الرحلة باحترام كير للإمام أبي حنيفة النعمان فقد قرأه على صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وأعجب بطريقته في الحوار والاستنباط، وبسعة أفقه، وروى عنه كثيرا من حيله، ودافع عنه، وكانوا في الحجاز يهاجمون أبا حنيفة ويتهمونه بأنه لا يحسن علم الحديث، فنافح عنه الشافعي ووضعه في مكانه، وعلمهم أن الناس "في الفقه عيال على أبي حنيفة" ..
استقر الشافعي بالمدينة تلميذا للإمام مالك، ثم بدأت تستقيم له طريقة في الجدل، فهو يلقي بالحجة دون أن يرفع صوته، ويقول لمجادله: "خذ مكاني وأخذ مكانك" .. ويقول الرأي المضاد، حتى ينتهي من هذا الأسلوب الجدلي إلى الحقيقة. وأخذ ينتصف لأهل الرأي من أهل الحديث، وينصف أهل الحديث من أهل الرأي، ويقاوم التعصب المذهبي ..
عاش في ظل الإمام مالك ورعايته حتى مات الإمام مالك ورعايته حتى مات الإمام مالك سنة 179 هـ والشافعي في نحو التاسعة والعشرين .. وبكى الشافعي أستاذه الإمام مالك ابن أنس أحر بكاء وعكف على قراءة القرآن ملتمسا العزاء .. وشعر أنه أصبح غريبا في المدينة" لم تطلب له الحياة بعد أن توفى شيخه .. وبدأ يبحث عن مكان يعمل فيه عملا يعيش منه .. وعاد إلى أمه بمكة، مودعا المدينة من خلال الدمع.
وكان والي اليمن قد أقبل إلى الحجاز في ذلك الوقت، فتوسط بعض أقرباء الشافعي من القرشيين عند والي اليمن، فصحبه معه إلى اليمن ووكل إليه عملا. لم يكن عند أم الشافعي ما تساعد به ابنها ليتزود في سفره هذا، وليقيم في اليمن حتى يقبض راتبه، فرهنت دارا كانت لها بمكة، وسافرت معه. ولقد غضب منه أحد شيوخه بمكة وعنفه لأنه يترك الفقه من أجل الوظيفة بقوله: "تجالسوننا وتسمعون منا، فإذا ظهر لأحدكم شيء دخل فيه؟".
وتولى الشافعي عملا مهما في نجران باليمن، وهناك عاود دراسة علوم الفراسة التي كانت مزدهرة باليمن، حتى تفوق فيها. وجلس إلى بعض شيوخ الشيعة باليمن فتلقى منهم، ولزم يحيى ابن حسان تلميذ الليث بن سعد المصري وصاحبه، فأخذ عنه كل ما انتهى إليه من فقه الليث. وقام الشافعي بعمله في نجران خير قيام، وأحبه الناس لعدله، ولتمسكه بالشريعة، وإغلاق باب المجاملة والملق.
ثم أنه وجد حاكم نجران يظلم الناس .. فقام الحاكم ووقف في المسجد يحض الناس على مقاومته، وأخذ يضرب لهم الأمثال لما يجب أن تكون عليه سيرة الحاكم بالإمام علي بن أبي طالب وسيرته في الخلافة، فأثار عليه أعداء كثيرين من الذين رفض مجاملتهم. ووشى حاكم نجران بالشافعي، ودس عليه أنه أسس حزبا علويا يعد للثورة على الخليفة، ليولي أحد أحفاد الإمام على، بدلا من هارون الرشيد وأنه يؤيد الحفيد في الثورة على الرشيد.
وكان العباسيون غلاظا على العلويين، يسفكون دماءهم بالظن. فقد كانوا يعرفون أن كثيرين يرون العلويين أحق منهم ومن الأمويين بالخلافة. فزع الرشيد من قراءة كتاب والي نجران وخاصة من قوله عن الشافعي: "لا أمر لي معه ولا نهي، فهو يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه".
وفي الحق أن الشافعي ما كان يخفي حبه لعلي وللطالبيين، فقد قيل له يوما: "خالفت علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما قلت". فقال لمناظره "اثبت لي هذا عن علي بن أبي طالب حتى أضع خدي في التراب وأقول قد أخطأت وأرجع عن قولي إلى قوله" ووجد في اليمن كثيرا من الطالبيين، وحضر مجالس العلم معهم ولكنه كان يستمع ولا يتكلم فإذا سئل في ذلك قال: "لا أتكلم في مجلس يحضره أحدهم وهم أحق بالكلام مني ولهم الرياسة والفضل".
وهكذا شاع عنه حبه لبني علي، والطالبيين جميعا. قيل له إنك لمتشيع تشايع علي بن أبي طالب وتشايع بنيه من بعده ومنهم الثائر العلوي على الرشيد .. فقال: يا قوم ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )؟ رواه البخاري ( 15 ) ومسلم ( 44 )وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أوليائي من عترتي المتقون"
فإذا كان واجبا علي أن أحب قرابتي وذوي ورحمي إذا كانوا من المتقين، أليس من الدين أن أحب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا من المتقين؟ "وكتب والي نجران مرة أخرى إلى هارون الرشيد أن الشافعي يؤلب عليه الأمة وأنه يقود تسعة من الثوار، يوالون الثائر العلوي الذي يطالب بالخلافة.
فأرسل الرشيد إلى والي نجران أن يرسل إليه الثوار مهانين في الأصفاد. كانوا تسعة على رأسهم الشافعي ووضع الحديد في أرجلهم وأعناقهم تنفيذا لأمر الرشيد وسيقوا إليه مهانين .. كان الشافعي في الرابعة والثلاثين، فارسا، بطلا في رياضة الرمي، جلد قوي البنيان، ولكنه جهد من الرحلة والإهانة. وأدخلوهم على الرشيد وإلى جواره محمد بن الحسن قاضي الدولة، الذي تلقى عنه الشافعي من قبل في الكوفة.
وكان الشافعي يدعو بهمهمة يسمعها الحاضرون: "الله يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير". أنكر التسعة تهمة الثورة على الرشيد، ولكنه أمر بقطع رءوسهم جميعا وسأله التاسع أن يمهله حتى يكتب لأمة فليس لها غيره، وأقسم أنه برئ من الإعداد للثورة على الرشيد، ولكن الرشيد أمر بقطع رأسه. كل هذا والشافعي في الأصفاد: الأغلال في عنقه والحديد في قدميه، ورأسه بالرغم من كل ذلك شامخ.
ويا لله كان مجهدا.
وهاهو ذا يرى الموت رأى العين، ولكنه على الرغم من كل شيء ثابت الجنان، عميق الإيمان لا يملك إلا أن يدعو بالنجاة .. وعندما انتهى الرشيد من قتل الرجل التاسع، قال الشافعي: "السلام عليك يا أمير المؤمنين وبركاته .. " ولم يقل ورحمة الله. فقال الرشيد: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته بدأت بسنة لم تؤمن بإقامتها، ورددنا عليك فريضة قامت بذاتها، ومن العجب أن تتكلم في مجلسي بغير أمري".
قال الشافعي: "إن الله تعالى قال في كتابه العزيز:
{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً }(النور،الآية:55) وهو الذي إذا وعد وفى، فقد مكنك في أرضه وأمنني بعد خوفي حيث رددت على السلام بقولك" وعليك رحمة الله "فقد شملتني رحمة الله بفضلك يا أمير المؤمنين".
فقال الرشيد: "وما عذرك من بعد أن ظهر أن صاحبك ـ يعني الثائر العلوي طغى علينا وبغى، واتبعه الأرذلون وكنت أنت الرئيس عليهم؟ فقال الشافعي: "أما وقد استنطقتني يا أمير المؤمنين فسأتكلم بالعدل والإنصاف، ولكن الكلام مع ثقل الحديد صعب فإن جدت علي بفكه أفصحت عن نفسي. وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلي والله غني حميد".
فأمر الرشيد بفك الحديد عنه، وأجلسه.
وقال الشافعي: حاشا لله أن أكون ذلك الرجل، قال تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ }..(الحجرات،الآية:6) لقد أفك المبلغ فيما بلغك وإن لي حرمة الإسلام وذمة النسب وكفى بهما وسيلة .. وأنت أحق من أخذ بكتاب الله. أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذائد عن دينه المحامي عن ملته وأنا يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي وإنما أدخلت في القوم بغيا علي أنا رجل من بني المطلب ابن عبد مناف .. أنا محمد بن إدريس بن عثمان بن شافع بن السائب ..
فقاطعه الرشيد: "أنت محمد بن إدريس؟"
فقال الشافعي: "ولي مع ذلك حظ مع العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك. وكان محمد بن الحسن الذي استضاف الشافعي في الكوفة من قبل، قد أصبح قاضي الدولة، يجلس بجوار الرشيد فقال له الرشيد: "ما ذكرت لي محمد بن الحسن" ثم التفت إلى القاضي وسأله: يا محمد .. ما يقول هذا أهو كما يقول؟. فقال بن الحسن إن له من العلم شأنا كبيرا. وليس الذي رفع عليه من شأنه.
قال الرشيد: فخذه حتى انظر في أمره.
وهكذا نجا الشافعي برأسه .. وخرج إلى بيت محمد بن الحسن ضيفا عليه .. ومازال محمد بن الحسن بالخليفة، حتى رضى عن الشافعي، واستدعاه ليمتحن علمه. وعقد له مجلسا من أهل العلم والفقه والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والطب.
قال الرشيد: "إنا نراعي حق قرابتك وعلمك فكيف علمك يا شافعي بكتاب الله عز وجل فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به؟".
فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين فأن الله قد أنزل كتبا كثيرة؟
فقال الرشيد: "أحسنت. لكن إنما أسألك عن كتاب الله تعالى المنزل على ابن عمي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الشافعي: "إن علوم القرآن الكريم كثيرة فهل تسألني عن محكمه أو متشابهه أو عن تقديمه أو تأخيره أو عن ناسخه أو منسوخه؟".
فأعجب الرشيد وأهل المجلس بجواب الشافعي. ثم أخذ الرشيد يسأله عن سائر العلوم الطبيعة والرياضية من طب وكيمياء وفلك وتنجيم وفراسة .. فصفق الحاضرون إعجابا بحسن إجاباته، وأجازه الرشيد بخمسين ألف دينار، فقبلها الشافعي شاكرا، وخرج إلى دار مضيفه، فلحق به أحد كبار رجال الدولة فقدم إليه صرة كبيرة بها دنانير ذهبية، فردها الشافعي قائلا: "لا أقبل عطاء ممن هو دوني إنما أقبل العطاء من الخليفة وحده". عاد الشافعي إلى دار مضيفه محمد بن الحسن، يتأمل كل الذي دار بينه وبين الخليفة.
تعلم الشافعي من المحنة ألا يزج بنفسه في صراع سياسي. وحاول محمد بن الحسن أن يجذبه ليكون في صف بني العباس، بدلا من بني علي، ولكنه أثر العافية وأقسم ألا يخوض غمرات الصراع السياسي، وألا يقبل منصبا في الدولة، فلن يهب نفسه لشيء بعد أعظم من العلم والفقه .. واعترف أنه أخطأ حين قبل المنصب في اليمن، فزج بنفسه فيما ليس من شأنه. وعكف على دراسة الطب والعلوم الطبيعة والرياضية يستكمل ما فاته منها، وأهتم بالرياضة البدنية، وعاد يتدرب على الرمي وركوب الخيل، وقسم وقته بين هذا كله وبين دراساته الفقهية ودراسة ما ترجم من ثقافات المصريين القدماء القبط واليونان والفرس والهند.
واتخذ لنفسه دارا، وبدأ يدرس فقه العراق على يد محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة. لقد درس هذا الفقه مرة عندما كان في نحو العشرين، وهاهو ذا اليوم في نحو الخامسة والثلاثين وقد أكسبته السنون خبرة، وأنضجت الدراسة والمعاناة والتأملات عقله وقلبه، يعيد دراسة فقه أبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق. ويبذل في كل أولئك من الجهد ما جعل الطبيب يحذره من السل. صاحب الشافعي محمدا يتلقى منه فقه أهل الرأي، ولم يجد في ذلك غضاضة، فقد كان دائما مشوقا إلى المعرفة، وإلى المزيد من العلم ـ وكان يقول: "من حسب أنه علم فقد ضل وجهل".
ولزم الشافعي حلقة محمد بن الحسن في بغداد، وشاهد في الحلقة مخالفة مالك، وهجوما على آرائه، وكان يستحي أن يواجه محمدا في الحلقة بخلافه معه حول الإمام مالك، فما يكاد محمد ينصرف عن حلقته، حتى يسرع الشافعي في مناظرة تلاميذ محمد، مدافعا عن فقه الإمام مالك، وعن أهل السنة، حتى لقد أطلقوا عليه في العراق اسم "ناصر السنة". وعرف محمد أن الشافعي يناظر في غيابه، فأصر محمد على أن يناظره الشافعي. وأبى الشافعي خجلا من محمد، ولكن محمد ألح عليه فتناظرا في رأي الإمام مالك في الاكتفاء بشاهد واحد مع اليمين. وظهر الشافعي على محمد في المناظرة.
ثم رجع الشافعي عن هذا الرأي عندما رحل إلى مصر، وسمع من تلاميذ الإمام الليث حجة شيخهم في التمسك بشاهدين .. فأخذ الشافعي برأي الليث .. أعجب محمد بالشافعي، وولع بمناظراته، وأعجب الشافعي بعلم محمد وبخلقه العلمي، فما كان يغضب إذا غلبه مناظر، وما أسرع ما كان يعترف لمناظره بالصواب إن اقتنع بحجته.
قال عنه الشافعي: "ما رأيت أحدا سئل في مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن". وقد بلغ من حب محمد للشافعي، أنه كان على موعد مع الخليفة، إذ بالشافعي أمام دار محمد، فنزل محمد عن دابته، وقال لغلامه اذهب فاعتذر. وأخذ بيد الشافعي، فقال الشافعي: "لنا وقت غير هذا" فقال محمد: "لا". ودخل به داره يتناظران ويتدارسان.
وعلى الرغم من أن محمدا من أهل الرأي من اتباع أبي حنيفة والشافعي من اتباع مالك شيخ أهل السنة ـ وبين أبي حنيفة ومالك خلاف كبير في الأصول والفروع ـ على الرغم من ذلك فإن محمدا كان يمدح لتلاميذه علم الشافعي وسألوه لماذا يؤثر الشافعي عليهم على الرغم من خلافهما فقال: لتأنيه وتثبته في السؤال والاستماع. أثرت الحياة الفكرية في بغداد ثراء عظيما بمحاورات الشافعي ومحمد بن الحسن، وكانت مثالا لأدب المناظرة، وبراعة المتناظرين. لكم كان الشافعي عفيف اللسان فهو لا يسيء إلى أحد ولا يحب أن يذكر أحد بسوء أمامه. قال له أحد أصحابه فلان كذاب. فقال: لا تقل (كذاب) بل حديثه غير صحيح.
وكان يعظ أصحابه: "نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به ـ فإن المستمع شريك القائل. والشافعي على الرغم من خلافه مع أبي حنيفة إمام الرأي كان إذا سئل عن مكانته بين فقهاء العراق ـ ومنهم أهل الحديث ـ قال: "سيدهم" ولعل أروح محاوراته مع محمد بن الحسن، هي تلك التي دارت حول الغصب.
قال محمد للشافعي: "بلغنا أنك تخالفنا في مسائل الغصب" "فقال الشافعي" أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة فإني أجلك عن المناظرة. ولكن محمدا صمم على أن يناظره فسأله: "ما تقول في رجل غصب ساحة وبني عليها بناء وأنفق عليها ألف دينار، فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟
قال الشافعي: "أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضى وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه.
قال محمد: فما تقول في رجل غصب لوحا من خشب فأدخله في سفينته ووصلت السفينة إلى لجة البحر، فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين. أكنت تنزع اللوح من السفينة؟
قال الشافعي: "لا"
قال محمد: "الله اكبر تركت قولك! ثم ما تقول في رجل غصب خيطا فرجحوا بطنه فخاطوا بذلك الخيط تلك الجراحة،
جاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب أكنت تنزع الخيط من بطنه؟
قال الشافعي: "لا"
فقال محمد: "الله اكبر. تركت قولك"
فقال الشافعي: أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه (لوح صاحب السفينة) وأراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر، أمباح له ذلك أم يحرم عليه؟
قال محمد: "يحرم عليه"
فسأل الشافعي: "أرأيت لو جاء مالك الساحة وأراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟".
فأجاب محمد: "بل يباح"
قال الشافعي: "رحمك الله فكيف تقيس مباحا على محرم؟".
قال محمد: فكيف يصنع بصاحب السفينة؟
قال الشافعي آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل، ثم أقول له أنزع اللوح وادفعه لصاحبه.
قال محمد: عن أبي سعيد سعد بن سنان الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، حديث حسن ، رواه ابن ماجة و الدارقطني وغيرهما .
قال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه ثم سأل الشافعي: "ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة". ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادات أشراف خطباء. فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة له ماذا تعمل؟
قال محمد: أحكم بأنه أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل.
قال الشافعي أنشدك الله أي هذين أعظم ضررا أن تقلع البناء وترد الساحة لمالكها أو أن تحكم برق هؤلاء الأولاد؟
فسكت محمد بن الحسن، أما تلاميذه في الحلقة فمالوا إلى رأى الشافعي.
أقام الشافعي في بغداد أعواما قلائل. استوعب فيها كل معطياتها من العلوم الطبيعة والدينية والرياضية والفقهية، وناظر فقهاءها، وقرأ عليهم كتاب الإمام مالك "الموطأ"، ودافع عن أهل الحديث، وأفاد من أهل الرأي. وشعر آخر الأمر بالشوق إلى مكة، وبأنه قد جمع من المعارف ما يؤهله لأن يجلس في المسجد الحرام مجلس المفتي والأستاذ وشيخ الحلقة. وكانت مناظراته قد أعجبت الرشيد، فعرض عليه أن يوليه القضاء في أي مكان يريد، أو يجعله واليا على أي قطر يختار.
ولكن الشافعي استأذن الرشيد في أن يتفرغ للعلم، وأن يعود إلى مكة ليعيش بين أهله من قريش وينشر ما تعلمه بين الناس.
وأذن له الرشيد.
وعاد الشافعي إلى أم القرى. فاتخذ له مجلسا للفتوى والتدريس في فناء بئر زمزم بجوار مقام إبراهيم خليل الله .. وهو المجلس الذي اختاره من قبل في عصر الصحابة، عبد الله بن عباس مفسر القرآن الكريم، وأحد الذين حفظوا فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، وكان نائبه على الحجاز عندما كان الإمام علي كرم الله وجهه أميرا للمؤمنين، يحكم الدولة الإسلامية الغنية من الكوفة في بيت هو من أدنى بيوت المسلمين.
عاد الشافعي من بغداد، ولا يزال في أذنيه طنين من ضجيج المناظرات .. وقد أتاح له مقامه الطويل هناك أن يقترب من أهل الرأي، وأن يقرب أهل السنة من الرأي .. وأن يقنع بعض أهل الرأي بما عند أصحاب السنة .. ومازالت صور من محاوراته مع محمد بن الحسن تلح عليه .. في حواره مع محمد بن الحسن شيخ أهل الرأي في العراق بعد الإمام أبي حنيفة كان الشافعي يحاول أن يقرب المذهبين، وكان مفتونا بذلك الطريق الوسط الذي اختطه الإمام الليث بن سعد المصري بين أصحاب الرأي وأهل السنة.
إنه لا يستطيع اليوم أن ينحاز إلى أي الحزبين .. فكيف استطاع الإمام الليث أن يجد هذا المنهج الوسط؟ كانت آراء الليث قد انتهت إلى الشافعي منذ كان في اليمن، ولكنه كان في حاجة إلى المزيد، ولابد من السفر إلى مصر ليتلقى العلم من إمامها الليث بن سعد. ولكن أهله في مكة أم القرى يستبقونه. وإذن فليقم في مكة أم القرى حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. وحتى يؤذن له بالسفر إلى مصر. لقد أصبح الآن يملك من عطايا هارون الرشيد ما يسمح له بالتفرغ الكامل للعلم.
وأنفق نصف ما حمله من العراق على فقراء مكة، تنفيذا لوصية أمه: أن يتصدق على الفقراء بنصف ما معه كلما قدم إلى أم القرى. وهاهو ذا الآن إمام يجلس للتدريس والإفتاء. ثابتا، راسخا، مطمئن النفس. وجعل يجلس في المسجد الحرام ساعات قليلة بعد الفجر، أما بقية النهار والليل فقد خصصه للتأمل، ولاستنباط منهج في الفقه. لكم هو نادم لأنه أضاع وقته، إذ قبل وظيفة في اليمن فدخل فيما ليس من شأنه على حساب ما كان ينبغي أن يحصل من معرفة، ويشيع من علم، وعلى حساب طلب الحقيقة والحكمة .. على أن الوقت لم يفت بعد، وعليه أن يعوض ما فات .. إنه لعمل النهار والليل إذن...
إنه ليفسر القرآن ويستنبط دلالات آياته، ويدرس الناسخ والمنسوخ، ويدرس السنة ومكانها من القرآن، ويتعرف على صحيح الأحاديث من باطلها، في عصر كثر فيه وضع الأحاديث إما مشايعة للفرق السياسية المتناحرة، وإما كيد للإسلام، وإما غفلة من وضاعي الحديث أو ناقليه حتى لقد صح عنده أن بعض الذين سمعوا الأحاديث كانوا يسمعون بعضها فيكتفون به، وقد يكون فيما يسمعوه منها ما ينسخ ما نقلوه.
ثم أخذ يفكر في كيفية استخراج الأحكام إن لم يكن هناك نص في القرآن أو السنة وكيف يجتهد المجتهد وما ضوابط الرأي. ووضع كتابا أسماه "الرسالة" فيه القواعد الكلية العامة لاستنباط الأحكام وأسس هذا الاستنباط، وأعاد النظر فيه فنقحه واختصر منه ولكنه لم يطمئن إلى نشره، فرأى أن يتركه بعض الوقت عسى أن يعيد النظر فيه، بعد طرح ما فيه من أفكار على أهل حلقته، ومناظرة شيوخ مكة وعلماء الأمصار الذين يفدون إلى البيت الحرام. وطال مقامه بأم القرى هذه المرة، وطابت له فيها الحياة، وجذب إليه الكثيرين من رواد الحلقات الأخرى في المسجد الحرام.
وجلس إليه بن حنبل فأعجب به، فذهب احمد إلى أصحابه الذين يلتمسون العلم في حلقات أخرى بالمسجد الحرام وأغراهم بالذهاب إلى حلقة الشافعي. ويروي أحد أصحاب ابن حنبل: "قمت فأتى بي احمد بن حنبل إلى فناء زمزم، فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض، تعلو وجهه السمرة، حسن السمت، حسن العقل، وأجلسني احمد بن حنبل إلى جانبه". وقال احمد ابن حنبل لصاحبه: "اقتبس من هذا الرجل فإنه ما رأت عيناي مثله، فإن فاتنا فلن نعوضه أبدا".
ثم عاد الشافعي من جديد إلى كتابه "الرسالة"، يتأمله ويهذبه حتى استقام له علم أصول الفقه، فرأى أن يذهب إلى العراق يعرض على شيوخه هذا العلم الجديد ويناظرهم فيه. كان قد جاوز الخامسة والأربعين، وقد أصبحت له بمكة مدرسة واتباع وقد أطلقوا عليه في مكة "المفتي المكي"، و"العالم المكي". وجلس في حلقة بجامع بغداد، يشرح للناس ما وصل إليه في "الرسالة" من أصول. وهناك بهر بعلمه الفقهاء والتلاميذ ..
ذلك أنه قد انتهى إلى أن القرآن الكريم قد جمع الأحكام وجاءت السنة شرحا وتبيانا لما في القرآن .. فعلى المجتهد أن يبحث عن الحكم في القرآن أو السنة .. فإن لم يجد ففي إجماع الصحابة .. إجماع الصحابة في كل الأقطار لا في المدينة المنورة وحدها، بحيث لا يصح إجماع إلا إذا اتفق عليه كل الصحابة. فإن لم يجد المجتهد حكما في كل ذلك، فعليه أن يبحث في علة الحكم الواردة بالنص، ويلحق بهذا الحكم ما يتشابه معه في العلة من القضايا الجديدة، وهذا هو القياس، وبهذا أرض الشافعي أهل الرأي وأهل الحديث جميعا.
احتفلت به بغداد كما بم تحتفل بفقيه زائر من قبل، وفرح به تلميذه احمد ابن حنبل الذي كان ألف أن يختلف إلى حلقته ويلزمه كلما زار مكة حاجا أو معتمرا، قاصدا إليها على قدميه .. وتمنى التلميذ على أستاذه أن يقيم في بغداد سنوات فينشر علمه ويؤسس فيها مدرسة فقهية جديدة. ولكن الحياة لم تطب للشافعي في بغداد .. لكم تغيرت بغداد خلال هذه السنوات الطوال التي أقامها الشافعي في مكة..!
لم تعد بعد بغداد التي أحبها .. ومات خير أصدقائه محمد بن الحسن، ولحق به آخرون، وسجن الباقون أو تركوا العراق، وذهب الرشيد، فاضطربت الأمور بعد موته .. اختلف أولاده .. وحارب الأخ أخاه على الخلافة .. فقد ولى الأمين ولم يكد يستقر على العرش حتى وثب عليه أخوه المأمون فقتله، وتولى مكانه. ومازالت أصداء النواح على البرامكة تملأ آفاق بغداد، منذ نكبهم الرشيد. وهم أقرب الناس إليه، وأعمل فيهم السيف وآلات التعذيب حتى لا يرى فوق ظهرها برمكيا.
ثم إن الرشيد بطش بكل معارضيه، ومازالوا تحت الأصفاد في كهف سحيق .. وما انفك من بين رجال العلم من يكيد لمخالفيه في الرأي ويحاول أن يوقع بهم عند المأمون .. الخليفة الذهبي .. وشيء جديد يشغل مجالس الفقه عما ينبغي أن تشغل به مما يفيد الناس في دنياهم .. فالأفكار التي تطرح على ندوات العلم والفقه هي صفات الله وعلاقتها بذات الله تعالى .. والجبر والاختيار.
ثم إن العناية بالقرآن الكريم قد عدلت عن تدبر آياته وفهم الأحكام منها، وتحرى مقاصدها بما يضبط معاملات الناس وسيرتهم في دينهم ودنياهم، وانصرف العلماء والفقهاء إلا قليلا إلى مناقشة صفة القرآن الكريم: أقدم هو أم مخلوق؟ جدل نهى الصحابة عنه، وانصراف عن مصالح العباد، ومباحث ما كانت تشغل حلقات العلم والفقه من قبل، بل كانت تعرض لتختفي، فهاهي ذي الآن تسيطر على العقول والقلوب.! وهكذا كله غير ما ينبغي أن يشغل المسلمين!! إن هذا لشيء عجيب ..
وعلى الرغم من الازدهار الحضاري الفائق، فقد أحس الشافعي أن الجسارة الفكرية في مواجهة مقتضيات الحياة باستنباط الأحكام قد بدأت تنحسر، ليزحف مد جسارة زائفة، هي الجرأة على الشريعة نفسها، وشغل الناس بما لا ينفعهم في مواجهة حياة كل يوم. يواكب هذا كله دعوة ملحة إلى الزاهد فيما أحله الله لعباده، وحض الناس على القناعة بالفقر، ليكنز الكانزون، ويستمتعوا دون الرعية حتى بما حرم الله..!
لم تعد بغداد هي المدينة التي أحبها الشافعي من قبل، وأفاد من مناظراته لعلمائها، وأتقن فيها علوم الطب والفلك، والفقه.
وإذن ما بقاؤه في بغداد!؟
وإلى من يأنس فيها؟!
ومع من يقضي وقته!!
لقد ألف حين زارها في المرة الماضية أن ينفق وقته مع صفيه وأستاذه محمد ابن الحسن .. أين رفاق ذلك الزمان من العلماء والفقهاء؟ لا أحد بعد! والإنسان يحب من المدائن تلك التي يجد فيها الراحة والألفة، وحسن الصحبة، وجمال الرفقة .. ولكنه الآن في بغداد لا يجد من يأنس إليه غير احمد بن حنبل. إنه لأحب تلاميذه إليه حقا، وما يقيم الشافعي عليه في بغداد الآن إلا من أجل احمد بن حنبل...
ومر عليه شهران في بغداد، واستدعاه المأمون، فعرض عليه أن يوليه منصب قاضي القضاة، وهو في المنصب الذي كان يشغله محمد بن الحسن أيام الرشيد، ولكن الشافعي كان قد ألي على نفسه ألا يتولى منصبا، وأن يخصص كل وقته للفقه، فإن وجد متسعا من الوقت فليخصصه للشعر، وما أقل ما كان يجد الوقت للممارسة هذا الفن الحبيب إليه! .. وما اكثر ما اكن يخشى أن يعرف عنه أنه قد أدركته حرفة الشعر فينبذه الفقهاء المتزمتون؟.
وتلقى دعوة إلى زيارة مصر من واليها الجديد، ومن أحد تلاميذه الذين أملى عليهم "الموطأ" في مكة من قبل، وألف استقباله في كل موسم حج، وقد أصبح تلميذه هذا الآن فقيها ذا شأن في مصر وتاجرا اسع الغنى وهو ابن عبد الحكم. لقد طوف الشافعي في الآفاق وعرف الدنيا وعرف الناس، زار اليمن والعراق والشام وفارس والأناضول، إلا البلد الذي سمع فيه من علم وحكمة، وتمنى أن يزوره .. زار كل عواصم الفقه .. إلا مصر..!
وتاقت نفسه إلى زيارة مصر .. إنه يعرف أن أول كتاب ترجم إلى اللغة العربية هو كتاب مصري في الطب، ترجمه في صدر الإسلام علام قطبي من أهل مصر .. وقد تعلم الشافعي من هذا الكتاب .. وهو يعرف أن حكماء اليونان الذين بهرته أفكارهم وكل آثارهم، قد تعلموا الحكمة والطب والفلسفة والرياضيات في مصر القديمة .. وهو يعرف أن مصر من بين كل البلاد المفتوحة هي البلد الوحيد الذي عرف عقيدة التوحيد قبل الديانات السماوية .. من يدري .. ربما كان بها رسل وأنبياء ممن لم يتحدث عنهم القرآن، وقد أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن بأنه أرسل من الرسل من لم ينزل قصصهم في القرآن، ولم ينبئه بأمرهم فيما أنزل عليه من أنباء الغيب!.
وهو يعرف أن في مصر مزجا من الحضارات، وأن الحضارة المصرية القديمة قد شكلت الإنسان المصري فعلمته حب العدل والحرية والحقيقة والحكمة، ثم جاءها الإسلام فأنبت فيها نباتا طيبا، وصاغ لها حياة خصبة من الأخوة .. وأنه ليتوق إلى التعرف على ما تركه الصحابة الأوائل في مصر، منذ جاءوها في جيش الفتح، وهو بعد يريد أن يعايش تلك المدرسة المصرية العظيمة في الفقه الإسلامي، الغنية باجتهادات الإمام الليث، رائد الشافعي في الطريق الوسط بين أصحاب الرأي وأهل الحديث
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
شمس

المدير العام


المدير العام
شمس


الجنس : انثى
عدد المساهمات : 1166
نقاط : 1397
تاريخ التسجيل : 22/12/2009
العمر : 33

الامام الشافعي 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الامام الشافعي 2   الامام الشافعي 2 I_icon_minitimeالجمعة 26 مارس 2010 - 8:05

جزاك الله خير الجزاء ياسر

تسلم ويسلم يدك على ماتقدم لناء


تحياتي غلاي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أبو الوفا

عضو فعال


عضو فعال
أبو الوفا


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 553
نقاط : 748
تاريخ التسجيل : 02/02/2010

الامام الشافعي 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الامام الشافعي 2   الامام الشافعي 2 I_icon_minitimeالجمعة 26 مارس 2010 - 15:06

أخي ياسر
لا أجد كلمات أعبر فيها عما تقدمه لنا
زدنا مما علمك الله.
تقبل تحياتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
afandy

عضو فعال


عضو فعال
afandy


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 1191
نقاط : 1488
تاريخ التسجيل : 21/12/2009

الامام الشافعي 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الامام الشافعي 2   الامام الشافعي 2 I_icon_minitimeالأحد 28 مارس 2010 - 20:06

شمس ما شاء الله عليك
تنيري صفحتي دوما
ربي لا يحرمني من مرورك الرائع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
afandy

عضو فعال


عضو فعال
afandy


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 1191
نقاط : 1488
تاريخ التسجيل : 21/12/2009

الامام الشافعي 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الامام الشافعي 2   الامام الشافعي 2 I_icon_minitimeالأحد 28 مارس 2010 - 20:07

انا في قمة السعاده لمرورك اخي الرائع ابوالوفا
لا تحرمني من عطرك الرائع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
afandy

عضو فعال


عضو فعال
afandy


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 1191
نقاط : 1488
تاريخ التسجيل : 21/12/2009

الامام الشافعي 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الامام الشافعي 2   الامام الشافعي 2 I_icon_minitimeالأحد 28 مارس 2010 - 20:09

شمس تنيري صفحتي بنور السعادة والصفاء
ربي لا يحرمني من مرورك الكريم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الامام الشافعي 2
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الامام الشافعي 1
» الامام الشافعي 3
» الامام مالك بن انس رضي الله عنه
» الامام احمد بن حنبل1
» الامام احمد بن حنبل2

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدي الغريب يرحب بكم ::  المنتدي الاسلامي :: اسلاميات-
انتقل الى: